بقلم / د. شيخة المفرج.
أخيتي ..
راجعي نفسك وانظري مكانكِ من والديكِ ففيهما الأجر أو الوزر, وإن الله سبحانه وتعالى قرن الإحسان إليهما بعبادته قال تعالى :{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿23﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴿24﴾ } سورة الإسراء، أخيتي لو تأملنا هاتين الآيتين حق التأمل لعلمنا عظم حق الوالدين، ووجوب الإحسان لهما, فقد نهينا عن أيسر ما يقع منا وهو قول : ( أُفٍّ ) لهما؛ لأنها تحمل التضجر، والتألم من خدمتهما, مع أن الواجب الرفق بهما و مقابلتهما بوجه بشوش دائماً.
إن النهي عن كلمة ( أُفٍّ ) يحمل في طياته النهي الأعظم عما هو أشد منها من القول، والفعل؛ كنهر الوالدين، أو زجرهما بالقول الغليظ الجافي، وعليه فقد أمرنا الله بالقول الحسن المشتمل على الأدب معهما يتابعه خفض جناح و رحمة , و بذل كل ما في الوسع لإرضائهما خاصة في حال الكبر, قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله - : (إن حق الوالدين عليك أن تبرهما و ذلك بالإحسان إليهما قولا و فعلا بالمال، والبدن, تتمثل أمرهما في غير معصية الله , و في غير ما فيه ضرر عليك , تلين لهما القول، وتبسط لهما الوجه , و تقوم بخدمتهما على الوجه اللائق بهما، و لا تتضجر منهما عند الكبر، والمرض، والضعف , و لا تستثقل ذلك منهما فإنك سوف تكون بمنزليهما, ستكون أبا كما كان أبويك , و سوف تبلغ الكبر عند أولادك - إن قدر لك البقاء - كما بلغاه عندك , و سوف تحتاج إلى بر أولادك كما احتاجا إلى برك , فإن كنت قد قمت ببرهما فأبشر بالأجر الجزيل و المجازاة بالمثل , فمن بر والديه بره أولاده , و من عق والديه عقه أولاده و الجزاء من جنس العمل , فكما تدين تدان ) أ.هـ
قال الشيخ ابن جبرين - حفظه الله - : ( ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رجلا قال : " يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي ؟ قال : أمك , قال : ثم من ؟ قال: أمك , قال: ثم من ؟ قال : أمك , قال ثم من ؟ قال : أبوك "، و في هذا عظم حق الأم على الوالد حيث جعل لها ثلاثة حقوق , و سبب ذلك أنها صبرت على المشقة، والتعب، ولاقت من الصعوبات في الحمل، والوضع، و الفصال، و الرضاع، و الحضانة، والتربية الخاصة ما لم يفعله الأب، و جعل للأب حقا واحدا مقابل نفقته، و تربيته، وتعليمه، و ما يتصل بذلك ). أ.هـ
لأمــك حــق لــو علــمت كثــير | كثيرك يا هــذا لديها يسيــر |
فكم ليلة باتت بــثـقلك تشتــكــي | لها من جواها أنة و زفــير |
و كم غسلت عنك الأذى بيمينهــا | و ما حجرها إلا لديك سرير |
و كم مرة جاعت و أعطتك قوتها | حنانا و إشفاقا و أنت صغير |
فــدونك فارغب في عميم دعائها | فأنت لــما تــدعـو إليه فقــير |
قوله تعالى: ( أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ )؛ فمن أطاع الله، و لم يطع الرسول لم يقبل منه ، وقوله :( وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ) فمن صلى و لم يزك لم يقبل منه، وقوله تعالى:( أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ) فمن شكر الله و لم يشكر والديه لم يقبل منه ). أ.هـ
و عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال:[ أقبل رجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبايعك على الهجرة و الجهاد أبتغي الأجر من الله, قال : فهل من والديك أحد حي ؟ قال نعم؛ بل كلاهما, قال : فتبتغي الأجر من الله ؟ قال: نعم, قال: فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما] صحيح مسلم ، و صح عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال : [ ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة العاق لوالديه , والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال , و الديوث , وثلاثة لا يدخلون الجنة :العاق لوالديه، والمدمن الخمر، والمنان لما أعطى] ،و في حديث أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : [ ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قالوا : بلى , قال : الإشراك بالله و عقوق الوالدين ] صحيح البخاري ، و لقد كان بر الوالدين هدي نبينا محمد صلى الله عليه و سلم, وهدي الأنبياء قبله قولاً وفعلاً و تقدم قول رسول الله , أما فعله فإنه لما مر على قبر والدته آمنة بنت وهب بالأبواء حيث دفنت، و معه أصحابه و جيشه و عددهم ألف فارس، وذلك عام الحديبية, فتوقف و ذهب يزور قبر أمه فبكى عليه السلام، وأبكى من حوله، وقال : [استأذنت ربي أن استغفر لها فلم يأذن لي واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكركم بالآخرة ]. صحيح مسلم
وهكذا كان السلف الصالح من هذه الأمة من ذلك أبو هريرة كان إذا أراد أن يخرج من بيته وقف على باب أمه فقال : السلام عليك يا أماه و رحمة الله و بركاته , فتقول: وعليك السلام يا ولدي ورحمة الله و بركاته , فيقول : رحمك الله كما ربيتني صغيرا , فتقول : رحمك الله كما بررتني كبيرا.
و هذا ابن الحسن التميمي يهم بقتل عقرب فلم يدركها حتى دخلت في جحر في المنزل فأدخل يده خلفها و سد الجحر بأصابعه فلدغته , فقيل له : لم فعلت ذلك ؟ قال: خفت أن تخرج فتجيء إلى أمي فتلدغها .
و أم ابن عون المزني فقد نادته أمه يوما فأجابها، وقد علا صوته صوتها ليسمعها فندم على ذلك و أعتق رقبتين .
و قد رأى ابن عمر رجلاً قد حمل أمه على رقبته، و هو يطوف بها حول الكعبة فقال: يا ابن عمر أتراني جازيتها ؟ فقال : و لا بطلقة واحدة من طلقاتها، ولكن أحسنت، والله يثيبك على القليل كثيرا.
و قال سفيان بن عيينه : قدم رجل من سفر فصادف أمه قائمة تصلي , فكره أن يقعد و أمه قائمة تصلي , فعلمت ما أراد فطولت ليؤجر .
هذه صور من السلف ؛ فما الذي نراه في وقتنا الحاضر؟ إنها صور معيبة للتقصير الشديد في بر آبائنا و أمهاتنا , و لربما وقع من البعض العقوق نسأل الله العفو والسلامة .
فإليك أخيتي بعض صور العقوق و مظاهره التي قد تخفى على بعض الناس :
- ترفع الولد على والديه، و تكبره عليهما لكثرة ماله، أو ارتفاع مستواه العلمي، أو الاجتماعي .
- تركهما بدون مُعِيل يتكففان الناس .
- تقديم غيرهما عليهما؛ كتقديم الصديق، أو الزوجة .
- مناداتهما باسمهما مجرداً مما يشعر بالتنقص و عدم الاحترام ، و التوقير .
- قال الحسن بن علي رضي الله عنهما : لو يعلم الله شيئا من العقوق أدنى من أف لحرمه ، و قال مجاهد : لا ينبغي للولد أن يدفع يد والده إذا ضربه , و من شد النظر إلى والديه لم يبرهما , و من أدخل عليهما ما يحزنهما فقد عقهما .
أثر بر الوالدين :
- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ من سره أن يمد له في عمره و يزاد له في رزقه فليبر والديه و ليصل رحمه]. إسناده صحيح، و عن ثوبان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :[ إن الرجل يحرم الرزق بالذنب يصيبه , و لا يرد القدر إلا الدعاء , و لا يزيد في العمر إلا البر]. إسناده صحيح أو حسن أو ما قاربهما
- و الجزاء من جنس العمل .
- و بركة دعاء الوالدين له فدعاؤهما مستجاب.
نعم .. استمعي إلى الشيخ ابن عثيمين عندما سئل عن ذلك قال : ( و أما بعد موتهما فيكون برهما بالدعاء لهما و الاستغفار لهما , و إنفاذ وصيتهما من بعدهما و إكرام صديقهما , و صلة الرحم التي لا صلة لك بها إلا بهما , هذه خمسة أشياء من بر الوالدين بعد الموت) .
قال الشيخ ابن باز - رحمه الله - : ( الصلاة عليهما و الاستغفار لهما , و إنفاذ عهدهما من بعدهما, و إكرام صديقهما , و صلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)، هذا كله من بر الوالدين بعد وفاتهما .
عن أبي بردة قال : قدمت المدينة فأتاني عبد الله ابن عمر فقال : أتدري لم أتيتك ؟ قال : قلت لا , قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول : [ من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه بعده ]، وأنه كان بين أبي عمر، و بين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذاك . حديث حسن