فقه الواقع ونجاح الدُّعاة

فقه الواقع ونجاح الدُّعاة

 

بقلم/ أ.محمد يوسف الجاهوش .

فقه الواقع من أهم أسباب نجاح الدعاة وأقواها، ومن أكثرها أثراً في نشر الدعوة وقبول مبادئها,وإنه لفارق كبير بين من يدعو إلى الله ـ تعالى ـ على بصيرة بواقع قومه، وإحاطة بشؤون مجتمعه مدركاً عوامل التأثير في جمهور المدعوين، وبين من يجهل ذلك ولا يعيره اهتماما، ودون ما ريب؛ فإن النتائج لن تكون متقاربة، فضلا عن أن تأتي متساوية.

إذ كيف يتساوى جهد من جهل الواقع، ومضى يعتسف الأمور اعتسافا ويخبط ـ تائها ـ في دروب الحياة!

كيف يتساوى جهد هذا مع جهد من قدر الأمور حق قدرها، ووضعها في نصابها، وأتى البيوت من أبوابها، وأنزل الناس منازلهم وعرف أقدارهم، وخاطب العقول,والقلوب بما يحركها إلى التفكر والتأمل، أو يستميلها إلى الفهم والاستيعاب؟

لا شك أن الفارق بين الصنفين كبير، فلا غرابة أن تتفاوت النتائج ولا تتقارب.

ومما يجدر بالدعاة استحضاره دائما، وأن يكونوا على ذكر منه، فلا يغيب لهم بال: أن العز والمنعة قلما يتوافران خارج الأوطان، وأن الحشمة والتقدير نادراً ما يحظى بهما المرء بعيدا عن الرهط والإخوان.

هـذه حقيقة جرت على لسان نبي الله لوط ـ عليه السلام ـ في اليوم العصيب يوم أحس بضعف الغريب، وقلة الناصر بين قوم نزح إليهم من بعيد قال: ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ  [هود:80] ,وقالها قوم شعيب ـ وقد هالهم ما يلقاهم به من عيب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ . [هود: 91]

نشير إلى هذا، وليس بغائب عنا قول رسولنا العظيم ـ صلى الله عليه وسلم: ( رحم الله أخي لوطا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ),ونؤمن كذلك إيمانا مطلقا أن الاعتزاز بالله تعالى وحده دون الرهط والعشيرة، أو الأنصار والأتباع هو سبيل النجاح، وطريق السعادة، ولكن الذي نومئ إليه إنما هو فقه الواقع، وإدراك تداعياته,والتعامل معها دون التخلي عن حمل أعباء الدعوة أو التقصير في مهمة الإبلاغ بكل الوسائل المتاحة.

طرح البديل: كثيراً ما يجد الداعية نفسه أمام مواقف يملي عليه الواجب أن يقول كلمة الحق فيها ويسعى إلى تغيير المنكر، ويشعر بالذنب والتقصير إن هو قصر أو توانى، وفي الوقت ذاته يرى أن يده أقصر من أن تطال ذلك المنكر وأهله، وإن هو فعل فستكون ردة الفعل أقوى وأقسى، وستعود بضرر أكبر وأشد مما يبغي إزالته، فماذا عساه فاعلا؟

إن فقه الواقع ـ في هذه الحالة ـ أن يتجاوز الإنسان ما يعجزه إلى ما يستطيعه ويقدر عليه، ولعل أبرز الخيارات ـ هنا ـ يكون في التحول من قضية إلى أخرى وطرحها بديلا عما يشغل الناس، وتقديمها بثوب زاه، وأسلوب رفيق جاذب؛ فإن النفوس تهوى الجديد، والإنسان فضولي بطبعه، ميال إلى حب الاستطلاع.

والأعمال الجيدة الصادقة الخالصة لله تعالى تحمل عوامل نجاحها في ثناياها,وتتسلل إلى القلوب دون واسطة، ولا استئذان؛فكم من بدعة درست وعفت آثارها بإحياء السنن وممارستها؟

وكم من ضلالات تخلى عنها أتباعها عندما لاحت لهم معالم الهداية من خلال الأسوة الحسنة والقدوة الصالحة؟ وكم من طاقات أمدت الفساد والانحراف بكل أسباب البقاء، ما لبثت أن تحولت إلى الخير، والعمل البناء لما وجدت متنفسا نظيفا، وبيئة صالحة، وموجها مخلصا؟

وليس هذا دعوى ندعيها، ولا رأيا نراه، إنها الحقيقة بكل أبعادها، وكثرة شواهدها فإنه كما قال صلى الله عليه وسلم : ( الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، إذا فقهوا ).[متفق عليه]

نعم، إن تحت ركام الجاهلية جمراً يتأجج ينتظر من ينفض عنه الرماد ليتحول إلى طاقة كاسحة تحرق الشر وأهله، وتحت ركامها فطرة غطاها الغبش، وران عليها كر الحدثان؛ فهي ترقب من يجلو عنها صدأ السنين، وغبار الزمن لتنطلق سوية سليمة تذرع دروب الحياة لهداية الحيارى، وإرشاد العابثين؛ فما أحوجنا إلى فقه واقعنا ، والتعامل معه بتقوى وإخلاص.

درس عملي: روى ابن كثير في البداية والنهاية من ترجمة ـ أبي بكر الآدمي: أنه حج برفقة الإمام البغوي حتى إذا كانوا بمدينة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجدوا في المسجد النبوي شيخا أعمى يقص على الناس أخبارا موضوعة مكذوبة!

قال الإمام البغوي: ينبغي الإنكار عليه؛لأنه يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال بعض أصحابه: إنك لست في بغداد يعرفك الناس إذا أنكرت عليه، ومن يعرفك هنا قليل، والجَمع حول الرجل كثير؛ فما نرى لك هذا، ولكن نرى أن تأمر "أبا بكر الأدمي" ـ وكان حسن الصوت ـ أن يقرأ القرآن، ويسمع الناس.

استصوب الإمام البغوي الرأي، وأمر "أبا بكر الآدمي" أن يشرع في التلاوة؛ فلما سمع الناس حسن تلاوته، ونداوة صوته، انجفلوا عن الأعمى وتركوه، وأقبلوا يصغون إلى القرآن ويتدبرونه، ولم يبق عند الأعمى أحد؛ فأخذ بيد قائده وقال: امض بنا فهكذا تزول النعم!

لقد فقه الإمام البغوي وأصحابه واقع الناس، وتعاملوا معه؛ فحققوا مقصدهم بأيسر مؤنة وأقل جهد؛ فهلا تنبه العاملون إلى هذا، وحرصوا على طرح البديل كلما أعجزهم التغيير؟!

________________________

 

: 27-04-2012
طباعة