دعاة وقدوات

دعاة وقدوات

بقلم : د. فيصل بن سعود الحليبي.



دعونا في المنطلق نسأل أنفسنا : كيف وصلت لنا التشريعات، وكيف اتضح لنا المنهج الرباني،وكيف تعلمنا الهدي النبوي، كيف استطاع الإسلام أن يسري إلى القلوب المشرقة والمغربة، حتى وصل إلى سويداء القلوب، وتشربت بفكره العقول، حتى خالج المشاعر، وسهل على أتباعه العمل به، وبلغ بهم الرضا به كل مبلغه ؟

إن السر في ذلك كله هو : تلك القدوة الحسنة التي نالها النبي الكريم، فسار على إثرها الصالحون من سلف الأمة وخلفها، حتى ضرب هؤلاء جميعًا أروع الأمثلة في كل خير ومعروف وصلاح، فكان على من بعدهم السير على طريقهم ، والاستنارة بسننهم , وقال تعالى:{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً}.(1)

إن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في طريقه بالإصلاح العقدي، وتوجيه الإيمان إلى وجهته الصحيحة، فلما نال النجاح فيه، صلحت له كل القضايا، فحاز كل الظفر، والقوة، والاستقرار .

خطأ كبير أن يفهم بعض الناس أن الإسلام انتشر في أرجاء المعمورة بالسيف أو إراقة الدماء؛ بل إن القدوة الحسنة، والخلق الرفيع، والإيمان الصادق، هو السبيل الأمثل والأسرع في انتشار هذا الدين ومحبة الناس ؛فكم من فعل كريم، أو خلق رفيع، أو كلمة حسنة، أو تعاون في بر، أو تضحية وبذل، أو إيثار وإحسان، وكان أثره أبلغ في إيصال الإسلام إلى الآخرين، أو تعليم الناس ما لا يعلمون، أو أخذهم إلى ساحل السعادة والأمان، وأبلغ من خطب طويلة، أو كتب كثيرة، أو أموال طائلة،فالقدوة الحسنة تصنع العجائب في النفوس، حتى لتبني الهداية في القلوب على أساس من الحب، وأصل متين من الإقناع، يبقى أثره طويلاً ، وإنك لترى خيره متعديًا .

لقد جاء التوجيه صريحًا في القرآن الكريم في قضية الاقتداء، وما ذاك إلا لأهميتها وعظيم شأنها، قال الباري سبحانه : { وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ }(2)؛ بل ربط ذلك بمحبة الله تعالى فقال سبحانه : } قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } .(3)

لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم  يعلمهم الإقتداء به، ويحذر من مخالفته، فتأمل معي هذا الحديث، فعن أنس بن مالك رضى الله تعالى عنه يقول : (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال أحدهم : أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم: كذا وكذا أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له لكني أصوم ، وأفطر، وأصلي، وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني).(4)

وتعلم الصحابة رضي الله عنهم الإقتداء به، وصدقوا ذلك بأفعالهم، فإنهم يتسابقون إلى ذلك، ومن ذلك ما رواه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس خاتما من ذهب فنبذه فقال: لا ألبسه أبدا فنبذ الناس خواتيمهم) (5),وسرى معنى الاقتداء في نفوس الصحابة، فما يزال أحدهم يتبع من هو أعلم منه، فعن أبي وائل قال: (جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا فقال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين قلت : ما أنت بفاعل قال لم؟ قلت : لم يفعله صاحباك! قال : هما المرآن يقتدي بهما) (6),ويغلب الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم كل معنى آخر ربما لا تدركه العقول، أو تقصر عن إدراكه؛ لأن أبرز ما في الاقتداء هو معنى اليقين بصدق المقتدى به، والثقة فيما جاء به، ويظهر ذلك جليًا في قول عمر بن الخطاب:حينما جاء إلى الحجر الأسود فقبله فقال : ويقول (والله إني لأقبلك وإني أعلم أنك حجر وأنك لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلك ما قبلتك). (7)

وتأخذ القدوة في نفوس عباد الرحمن مكانًا عظيمًا لعظيم أثرها في النفوس ,وما تتركه من تبعات ليس هينة، حيث يخشى إذا وقع فيها الزلل أن تبتدع بها البدع المنكرة، ومن ذلك لما رأى عمر بن الخطاب على طلحة بن عبيد الله ثوبا مصبوغا، وهو محرم فقال عمر ما هذا الثوب المصبوغ يا طلحة فقال طلحة : يا أمير المؤمنين إنما هو مدر فقال عمر: ( إنكم أيها الرهط أئمة يقتدي بكم الناس فلو أن رجلا جاهلا رأى هذا الثوب لقال إن طلحة بن عبيد الله كان يلبس الثياب المصبغة في الإحرام فلا تلبسوا أيها الرهط شيئا من هذه الثياب المصبغة) .(8)

وتعظم المسؤولية على أهل العلم والصلاح والدعوة؛ لأنهم في محل القدوة عند عامة الناس، والناس إذا اختلفوا في شيء نظروا إليهم ماذا سيصنعون فيفعلون مثلهم، والله المستعان، فليضع كل قدوة نفسه في محلها الذي ينبغي أن تكون فيه .

وإليك هذا الموقف : فعن وهب بن منبه رضي الله عنه قال : كان جبار في بني إسرائيل يقتل الناس على إجبارهم بأكل لحم الخنزير، فلم يزل يفتك بهم ويجبرهم حتى وصل إلى عابد من عبادهم، فشق ذلك على الناس، فأتاه صاحب الشرطة وعرض عليه سبيلاً للنجاة فقال له : إني أذبح لك جديًا، فإذا دعاك ذلك الجبار لتأكله على أنه لحم خنزير فكله، فلما دعاه الجبار إلى ذلك، أبى ذلك، فأمر به ليخرجوه ويقتلوا عنقه، فقال له صحاب الشرطة : ما منعك أن تأكل وقد أخبرتك أنه جدي! قال : إني رجل ينظر الناس إلي، وإني كرهت أن يتأسى بي في معاصيّ، قال : فقتله .

واليوم سهل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم  حيث سهل النظر في سنته، وتوفرت الكتب التي تحكي سيرته، بأشكال مختلفة، حيث الحلقات العلمية، والبرامج الإعلامية المرئية والمسموعة, والإلكترونية، فما بقي للمرء إلا أن يعمر قلبه بحب النبي صلى الله عليه وسلم والسير على نهجه، ليملأ قلبه باليقين بأن إتباع خير المرسلين هو طريق الناجحين المفلحين .

 

إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا

كفى بالمطايا ذكراك حاديا

وإن نحن أضللنا الطريق ولم نجد

 

هاديا دليلاً كفانا نور وجهك

 

 

فإلى كل من ضل الطريق فتأسى بالمنحرفين، أوسار خلف الضالين، لسنا أمة ضائعة؛ بل إنها خير الأمم ما دامت تسير خلف إمام المرسلين محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.

____________________

 

(1)[الأحزاب :21].

(2) [الحشر:7].

(3)[آل عمران :31].

(4)رواه البخاري.

(5)رواه البخاري .

(6)رواه البخاري .

(7)صحيح مسلم.

(8)رواه الإمام مالك .

___________________

 

: 27-04-2012
طباعة